مقامرة نتنياهو- فخ استراتيجي أم وهم القوة وتقويض المنطقة؟

المؤلف: د. محسن محمد صالح10.05.2025
مقامرة نتنياهو- فخ استراتيجي أم وهم القوة وتقويض المنطقة؟

ربما استشعر نتنياهو، استنادًا إلى تقديراته، امتلاكه لمقومات القوة التي تدفعه إلى التعامل مع حربه الشرسة على قطاع غزة المحاصر كفرصة سانحة، ليس فقط لإعادة رسم ملامح مستقبل القطاع، بل أيضًا لتشكيل المشهد الأمني في المنطقة بأسرها؛ بما يضمن الحماية المطلقة للكيان الصهيوني ويكفل له الاستدامة على المدى الطويل.

إلا أن هذه الحسابات الدقيقة تتجاهل "الفخ الاستراتيجي" المحكم الذي يورط فيه نفسه، وحكومته المتطرفة، وكيانه الإسرائيلي برمته، حيث يزج بهم في مستنقع من الاستنزاف المنهك الذي يقوض أركان الكيان وأسس استقراره.

فعلى الرغم من إخفاق نتنياهو الذريع في تحقيق أي من الأهداف المعلنة بشكل صريح في حربه العدوانية على قطاع غزة، فإنه عمد إلى توسيع رقعة الحرب وامتدادها لتشمل الأراضي اللبنانية منذ منتصف شهر سبتمبر/أيلول من عام 2024، مضيفًا هدفًا ملحًا يتمثل في إعادة ما يقارب مئة ألف مستوطن صهيوني نزحوا قسرًا عن ديارهم بفعل الضربات الموجعة التي وجهها حزب الله إلى شمال فلسطين المحتلة؛ وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال خوض معركة ضروس يسعى الاحتلال الإسرائيلي من خلالها لإجبار حزب الله على الامتثال الكامل للمطالب الإسرائيلية المجحفة.

ثم قام الاحتلال الغاشم، في الذكرى السنوية الأولى لمعركة طوفان الأقصى البطولية (الموافق 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2024)، بالإعلان صراحة عن سعيه الحثيث لتغيير الواقع الأمني في المنطقة برمتها، والتأكيد بشكل قاطع على أن المعركة الدائرة هي معركة وجودية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بل وتجاوز ذلك إلى تغيير اسم المعركة ليصبح حرب "القيامة" أو حرب "الابتعاث" أو "النهضة"، وفقًا للترجمات العربية المختلفة للمصطلح العبري الذي سعى نتنياهو من خلاله إلى إضفاء طابع ديني على الحرب وشحنها بعواطف صهيونية متأججة؛ وكأنه بذلك يستهل فصلً جديدًا من فصول معركته العبثية التي تصور في البداية أنها لن تستغرق أكثر من بضعة أسابيع أو بضعة أشهر معدودات.

إغراء القوة

يبدو جليًا أن هناك عوامل عدة تغري نتنياهو بتوسيع نطاق أهدافه من هذه الحرب الشعواء. ويتصدر هذه العوامل التفوق الساحق في القدرات العسكرية والاستخباراتية المتطورة، والدعم اللامحدود الذي يتلقاه من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب؛ بالإضافة إلى وجود سلطة فلسطينية رسمية في الضفة الغربية المحتلة تتعاون بشكل وثيق مع الاحتلال، وتنسق معه أمنيًا في ملاحقة فلول المقاومة الفلسطينية؛ فضلاً عن وجود بيئة عربية وإسلامية رسمية عاجزة تمامًا عن تقديم الدعم والإسناد للمقاومة الفلسطينية، بل ومنشغلة بقمع شعوبها المقهورة؛ بل إن عددًا من أنظمتها السياسية قد بالغ بالفعل في التودد إلى الاحتلال وفي العداء والخصومة الشديدة للمقاومة.

ثم إنّ الاحتلال قد حقق بالفعل عددًا من "الإنجازات" التكتيكية التي منحته مزيدًا من الشعور الزائف بغرور القوة، وذلك في اغتيال العديد من القادة البارزين في صفوف المقاومة، وفي تكبيد المقاومة خسائر فادحة تمثلت في فقدان الآلاف من كوادرها السياسية والتنظيمية والعسكرية والأمنية؛ ونتيجة لاستخدام الاحتلال كافة الوسائل القذرة واللاأخلاقية في قتل عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، وتشريد أكثر من مليوني فلسطيني داخل قطاع غزة المنكوب، وأكثر من مليون لبناني في لبنان، وتدمير المنازل والبنى التحتية بشكل ممنهج وواسع النطاق.

لكل هذه الأسباب، بادر نتنياهو وحكومته المتطرفة مؤخرًا إلى رفع سقف مطالبهم وشروطهم في حربهم العدوانية على لبنان، فلم يعد الهدف مقتصرًا على مجرد إعادة المستوطنين إلى أماكن إقامتهم السابقة في شمال فلسطين المحتلة، وإنما تعدى ذلك إلى أن الاحتلال الإسرائيلي بات يطالب بانسحاب كامل لقوات حزب الله من خطوط الهدنة إلى شمال نهر الأولي أو الليطاني، وبنزع سلاح حزب الله بشكل كامل، وتقديم ضمانات قاطعة تمنع إعادة تمركز قوات الحزب في القرى الحدودية.

وقد نشر موقع والا Walla العبري في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 وثيقة مبادئ مقترحة من الطرف الإسرائيلي تتضمن المطالبة بحرية تصرُّف كاملة للاحتلال الإسرائيلي في الأراضي اللبنانية؛ بحجة منع حزب الله من إعادة بناء قوته العسكرية بالقرب من الحدود، وحرية استخدام سلاح الجو الإسرائيلي في المجال الجوي اللبناني دون قيد أو شرط، وتفعيل دور الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل في السيطرة على المناطق الحدودية بشكل كامل، ومنع الجماعات المسلحة من العمل والتحرك هناك.

وهذا يعني عمليًا انتقاصًا صارخًا من سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها، ووضعها تحت نوع من أنواع الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية المباشرة، وهي محاولة يائسة لفرض الهزيمة والاستسلام على حزب الله، وعزله بشكل كامل عن دعم المقاومة الباسلة في فلسطين، كما أنه ينسف القرار الأممي رقم 1701 الذي من المفترض أن يتم وقف إطلاق النار على أساسه، بحسب التزام الحكومة اللبنانية. وهذا يعني عمليًا استمرار الحرب على لبنان إلى أجل غير مسمى؛ لأن حزب الله والدولة اللبنانية ليسا على استعداد للموافقة على هكذا شروط مجحفة ومهينة.

أما صياغة الواقع الأمني في المنطقة، فمعناه بكل وضوح فرض المعايير الأمنية الإسرائيلية المتشددة، خصوصًا في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين المحتلة، وتحديدًا دول الطوق. وهو يعني أن الاحتلال الإسرائيلي سيسعى جاهدًا لتوفير مزيد من الضمانات الأمنية حتى من تلك الدول التي تربطه بها علاقات رسمية تطبيعية.

وقد يعني ذلك مزيدًا من التدخل السافر في الشؤون الداخلية لدول المنطقة؛ لقمع ومطاردة تيارات "الإسلام السياسي" بشكل خاص، والتيارات والرموز والهيئات المؤيدة للمقاومة الفلسطينية الباسلة؛ ومحاربة كل ما يزعج الاحتلال الغاشم، بما في ذلك الاعتراض على برامج تهويده المتسارعة للأقصى والقدس وباقي أراضي فلسطين المحتلة، وقمعه الوحشي للشعب الفلسطيني الأعزل ومصادرة أراضيه ووضعه في ظروف معيشية طاردة تجبره على الهجرة القسرية خارج فلسطين المحتلة؛ وانتهاء بشطب القضية الفلسطينية من الأجندة الدولية إلى الأبد.

وقد تفتح الضغوط الإسرائيلية المتزايدة (والأميركية الغربية من ورائها) الباب على مصراعيه لزيادة الأزمات والمشاكل الداخلية المتفاقمة بين حكومات المنطقة وشعوبها المقهورة.

وربما سعى نتنياهو بشتى الطرق لجرّ الولايات المتحدة الأمريكية إلى المواجهة العسكرية المباشرة مع إيران، بما قد يفتح الباب على مصراعيه لتوسيع رقعة الحرب لتشمل حربًا إقليمية شاملة، في محاولة لتحقيق الأجندة الإسرائيلية الخبيثة.

مقامرة توقع في فخّ إستراتيجي

ماذا يحدث عندما تكون لديك، ووفق الحسابات المادية البشرية، كافة العناصر والمقومات اللازمة لتحقيق الانتصار الساحق وبلوغ أهدافك المنشودة؛ ولكنك في الوقت الذي تُحقق فيه منجزات تكتيكية ملموسة فإنك تفشل فشلًا ذريعًا في تحقيق أهدافك الاستراتيجية بعيدة المدى؟

عمليًا، سترى أن إمكاناتك الهائلة المتوفرة ومنجزاتك التكتيكية المحدودة وحسابات القوة الخاطئة، تدفعك دفعًا للاستمرار في الإنفاق المفرط من "رأس المال" الذي لديك، للوصول إلى أهدافك المستعصية، التي تتراءى لك أنها ممكنة التنفيذ.

هي أقرب ما تكون إلى سلوك "البلطجي" المتغطرس المتنمِّر، الذي يغتصب حقوق الآخرين عنوة، والذي فوجئ بفتى يضربه لكمة قوية تُطيحه أرضًا وتُفقده صوابه وتذله أمام الملأ.. هذا البلطجي المتهور سيسعى جاهدًا لاستعادة مكانته المفقودة من خلال سحق الفتى المسكين، وجعله عبرة قاسية لغيره من الصبية.

لكن ماذا لو أن الفتى صمد صمود الأبطال بالرغم من شدة الضربات الموجعة التي يتلقاها بضراوة.. وفاجأ البلطجي المتغطرس كما فاجأ الجميع بقدرته الفائقة على المنازلة وإلحاق الهزيمة به واستنزافه.. وبقدرته العجيبة على الاستمرار في القتال، ومواصلة التحدي العنيد؟!

هنا يتعين على البلطجي أن يختار أحد الخيارين الصعبين، فإما أن ينزل ذليلًا على شروط الفتى، وإما أن يواصل التحدي الأحمق. ولأن البلطجي لم يستوعب إطلاقًا فكرة أن يفرض الفتى شروطه عليه، فإنه سينزلق إلى "عقلية المقامر" المهووس الذي يندفع بجنون في المراهنة ومتابعة استنفاد ما لديه من رأس مال وإمكانات هائلة؛ لأن "حالة الإنكار" و"الهروب من الواقع المرير" وعدم القدرة على قراءة المعطيات الموضوعية التي تتسبب في فشله الذريع، تدفعه دفعًا للاستمرار في غيه وضلاله.

وهذا السلوك الأحمق سيؤدي حتمًا إلى استنزافه وإضعافه تدريجيًا إلى أن ينهار تمامًا، أو تجبره المعطيات الجديدة على الاعتراف بالواقع الجديد والانسحاب المهين تحت ضربات الفتى الشجاع. ولعل هذا هو النموذج المصغر لقصة داود الفلسطيني في مواجهة جالوت الإسرائيلي!!

إن نموذج البلطجي المتغطرس هو نموذج مصغر للقوى المستعمرة التي تعيش في حالة من الغرور بالقوة المفرطة، ثم تسقط سقوطًا مدويًا في "الفخ الاستراتيجي" المحكم نتيجة لسوء تقديراتها الفادحة، مثل نموذجي نابليون وهتلر في غزوهما الكارثي لروسيا، ونموذج المستعمر الأميركي البغيض في فيتنام، والفرنسي في الجزائر، والروسي والأميركي في أفغانستان.

لماذا الإصرار؟

السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: إذا كان نتنياهو عاجزًا تمامًا عن تحقيق أي هدف من أهدافه المعلنة في حربه الشرسة على غزة؛ وفشل فشلًا ذريعًا في تحقيق ذلك بعد مرور أكثر من 380 يومًا على اندلاع الحرب، أليس هو أعجز وأضعف من أن يتمكن من تحقيق أهدافه في حربه العدوانية على لبنان أو في فرض رؤيته الأمنية الخبيثة على المنطقة بأسرها؟! ولماذا يصرّ إذًا على توسيع نطاق حربه العبثية؟!!

يبدو جليًا أن غرور القوة الأعمى، مصحوبًا بالفشل الفاضح في تحقيق الأهداف المعلنة في الحرب على غزة، يدفعه دفعًا للقفز المتهور إلى الأمام، واصطناع مهام جديدة وهمية، يُوجِد بسببها مبررات جديدة واهية للبقاء في السلطة؛ وإعطاء مدى زمني أطول وفرص أخرى موهومة لتحقيق الأهداف التي لم تتحقق على أرض الواقع. وهو بذلك يحاول عبثًا إقناع التجمع الاستيطاني الصهيوني بجدوى استمراره في الحكم، وبوجود مهام كبيرة بحاجة إلى استكمال.

خلاصة:

التوقعات المستقبلية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقدرة المقاومة الفلسطينية الباسلة على الاستمرار في أدائها القوي والفعال، مهما بلغت التضحيات الجسام؛ وهو ما سيفرض حتمًا استمرار الاستنزاف الإسرائيلي المتصاعد وتفاقم حالة الإنهاك الشديد التي يعاني منها الجيش والاقتصاد الإسرائيلي المتهالك، ومضاعفة الهجرة المعاكسة، وزيادة العزلة الدولية، وارتفاع جدران الدم مع البيئة العربية المحيطة، وسقوط مسارات التطبيع المخزية.

وسيقع الاحتلال الإسرائيلي لا محالة في "فخ استراتيجي" محكم عندما يواصل "المقامرة" الطائشة بما لديه من قدرات، وهو ما سيكشف بشكل تدريجي العديد من نقاط الضعف والثغرات الكامنة، مما سيعطي فرصًا أفضل للمقاومة الفلسطينية على المديين المتوسط والبعيد؛ لمضاعفة الخسائر الإسرائيلية وتسريع عملية الاستنزاف الشامل، التي ستفرض في نهاية المطاف على الاحتلال الغاشم النزول ذليلًا على شروط المقاومة العادلة.

وما يدفع في هذا الاتجاه بقوة أن المقاومة الشرسة في غزة، وبعد استشهاد القائد الهمام السنوار – رحمه الله وأسكنه فسيح جناته – ما زالت مستمرة في أدائها العسكري القوي، وأن المقاومة الباسلة في لبنان قد أعادت ترتيب أوراقها وتموضعها وضاعفت من أدائها القوي في شمال فلسطين ووسطها، لتضاعف أعداد المهجرين قسرًا من المستوطنين الصهاينة. كل هذا، مدعومٌ بقوة من المقاومة الشريفة في اليمن والعراق.

لقد فرضت المقاومة الباسلة في هذه الحرب معادلة الاستنزاف المتبادل مقابل الاستنزاف الأحادي، بعد أن كان الاحتلال الغاشم ينفذ من طرف واحد استنزافه لأرض فلسطين وشعبها وللأمة العربية بأسرها، وينفذ برامجه ومخططاته الخبيثة للهيمنة المطلقة على المنطقة.

العقلية الصهيونية المتعجرفة ستتسبب في المزيد من المعاناة والضحايا والدمار، في محاولة بائسة لتطويع المنطقة واستعباد شعوبها الأبية، ولكن لا خيار أمام الشعوب الحرة سوى الاستمرار في المقاومة الشرسة لانتزاع حريتها المسلوبة وتحرير أرضها ومقدساتها المغتصبة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة